فصل: قال الثعلبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



المسألة الثانية:
قال أكثر المفسرين المراد من قوله: {وَمَنْ خَفَّتْ موازينه} الكافر والدليل عليه القرآن والخبر والأثر.
أما القرآن فقوله تعالى: {فأولئك الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بآياتنا يَظْلِمُونَ} ولا معنى لكون الإنسان ظالمًا بآيات الله إلا كونه كافرًا بها منكرًا لها، فدل هذا على أن المراد من هذه الآية أهل الكفر، وأما الخبر فما روي أنه إذا خفت حسنات المؤمن أخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من حجرته بطاقة كالأنملة فيلقيها في كفة الميزان اليمنى التي فيها حسناته فترجح الحسنات فيقول ذلك العبد المؤمن للنبي صلى الله عليه وسلم بأبي أنت وأمي ما أحسن وجهك وأحسن خلقك فمن أنت؟ فيقول: «أنا نبيك محمد وهذه صلاتك التي كنت تصلي علي قد وفيتك أحوج ما تكون إليها»، وهذا الخبر رواه الواحدي في البسيط، وأما جمهور العلماء فرووا هاهنا الخبر الذي ذكرناه من أنه تعالى يلقى في كفة الحسنات الكتاب المشتمل على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.
قال القاضي: يجب أن يحمل هذا على أنه أتى بالشهادتين بحقهما من العبادات، لأنه لو لم يعتبر ذلك لكان من أتى بالشهادتين يعلم أن المعاصي لا تضره، وذلك إغراء بمعصية الله تعالى.
ولقائل أن يقول: العقل يدل على صحة ما دل عليه هذا الخبر، وذلك أن العمل كلما كان أشرف وأعلى درجة، وجب أن يكون أكثر ثوابًا، ومعلوم أن معرفة الله تعالى ومحبته أعلى شأنًا، وأعظم درجة من سائر الأعمال، فوجب أن يكون أوفى ثوابًا، وأعلى درجة من سائر الأعمال.
وأما الأثر فلأن ابن عباس وأكثر المفسرين حملوا هذه الآية على أهل الكفر.
وإذا ثبت هذا الأصل فنقول: إن المرجئة الذين يقولون: المعصية لا تضر مع الإيمان تمسكوا بهذه الآية وقالوا إنه تعالى حصر أهل موقف القيامة في قسمين: أحدهما: الذين رجحت كفة حسناتهم وحكم عليهم بالفلاح.
والثاني: الذين رجحت كفة سيئاتهم، وحكم عليهم بأنهم أهل الكفر الذين كانوا يظلمون بآيات الله، وذلك يدل على أن المؤمن لا يعاقب ألبتة.
ونحن نقول في الجواب: أقصى ما في الباب أنه تعالى لم يذكر هذا القسم الثالث في هذه الآية إلا أنه تعالى ذكره في سائر الآيات فقال: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء: 116] والمنطوق راجح على المفهوم، فوجب المصير إلى إثباته، وأيضًا فقال تعالى في هذا القسم: {فأولئك الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم} ونحن نسلم أن هذا لا يليق إلا بالكافر وأما العاصي المؤمن فإنه يعذب أيامًا ثم يُعفى عنه، ويتخلص إلى رحمة الله تعالى، فهو في الحقيقة ما خسر نفسه بل فاز برحمة الله أبد الآباد من غير زوال وانقطاع. والله أعلم. اهـ.

.قال السمرقندي:

{وَمَنْ خَفَّتْ موازينه} أي رجحت سيئاته على حسناته {فأولئك الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم} أي غبنوا حظ أنفسهم {بِمَا كَانُواْ بآياتنا يَظْلِمُونَ} بما كانوا بآياتنا يجحدون، بأنه ليس من الله تعالى.
وقد ذكر الموازين بلفظ الجمع.
قال بعضهم: لأن المراد بها جميع الموزون.
وقال بعضهم: أراد به الميزان لأن الميزان يشتمل على الكفتين والشاهين والخيوط.
وقد ذكر باسم الجماعة. اهـ.

.قال الثعلبي:

{وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} إلى قوله تعالى: {يِظْلِمُونَ} يجحدون قال حذيفة: صاحب الموازين يوم القيامة جبرائيل يقول الله تعالى «يا جبرائيل زن بينهم فردَّ بعضهم على بعض» قال: وليس ثمّ ذهب ولا فضّة وإن كان للظالم حسنات أخذ من حسناته فيرد على المظلوم وإن لم يكن له حسنات يحمل عليه من سيئات صاحبه، يرجع الرجل وعليه مثل الجبال.
قال ابن عباس: توزن الحسنات والسيئات في ميزان لسان وكفتان فأمّا المؤمن فيؤتي بعمله في أحسن صورة فيرتفع في كفّة الميزان وهو الحق فينقل حسناته على سيئاته فيوضع عمله في الجنّة يعرفها بعمله فذلك قوله: {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فأولئك هُمُ المفلحون} الناجون ولهم غرف بمنازلهم في الجنّة إذا أنصرفوا إليها من أهل الجنّة إذا أنصرفوا إلى منازلهم.
وأمّا الكفّار فيؤتى بأعمالهم في أقبح صورة فيوضع في كفّة الميزان وهي الباطل فيخفّ وزنه حتّى يقع في النار ثمّ يقال للكافر: اِلحقْ بعملك.
فإن قيل: كيف يصح وزن الأعمال وهي أعراض وليست بأجسام فيجوز وزنها ووصفها بالثقل والخفة وإنما توزن الأعمال التي فيها أعمال العباد مكتوبة.
يدلّ عليه حديث عبد الله بن عمر، وقال: يؤتى بالرجل يوم القيامة إلى الميزان ثمّ خرج له تسعة وتسعون سجلًا كلّ سجل منها مثل مدى البصر فيها خطاياه وذنوبه فيوضع في الكفّة ثمّ يُخرج له كتاب مثل الأنملة فيها شهادت أن لا إله إلاّ الله وأن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم يوضع في الكفّة الأُخرى فيرجّح خطاياه وذنوبه، ونظير هذه الآية قوله: {وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة} [الأنبياء: 47].
فإنّ قيل: لِم جمعه وهو ميزان واحد.
قيل: يجوز أن يكون أعظم جميعًا ومعناه واحد كقوله: {الذين قَالَ لَهُمُ الناس} [آل عمران: 173] {يا أيها الرسل} [المؤمنون: 51] وقال الأعشي:
ووجه نقي اللون صاف يزيّنه ** مع الجيد لبّات لها ومعاصم

أراد لبّة ومعصمًا.
وقيل: أراد به الأعمال الموزونة.
وقيل: الأصل ميزان عظيم ولكل عبد فيه ميزان معلّق به.
وقيل: جمعه لأن الميزان ما اشتمل على الكفتين والشاهدين واللسان ولا يحصل الوزن إلاّ باجتماعهما.
وقيل: الموازين أصله: ميزان يفرق به بين الحق والباطل وهو العقل، وميزان يفرّق بين الحلال والحرام وهو العلم، وميزان يفرّق به بين السعادة والشقاوة هو عدم سهو الإرادة، وبالله التوفيق. اهـ.

.قال ابن عطية:

قوله تعالى: {ومن خفت موازينه} الآية، المعنى من خفت كفة حسناته فشالت، و{خسروا أنفسهم} أي بالهلاك والخلود في النار وتلك غاية الخسارة، وقوله: {بما كانوا} أي جزاء بذلك كما تقول أكرمتك بما أكرمتني، وما في هذا الموضع مصدرية، والآيات هنا البراهين والأوامر والنواهي و{يظلمون} أي يضعونها في غير مواضعها بالكفر والتكذيب. اهـ.

.قال الخازن:

{ومن خفَّت موازينه} يعني موازين أعماله وهم الكفار بدليل قوله تعالى: {فأولئك الذين خسروا أنفسهم} يعني غبنوا أنفسهم حظوظها من جزيل ثواب الله وكرامته {بما كانوا بآياتنا يظلمون} يعني سبب ذلك الخسران أنهم كانوا بحجج الله وأدلة توحيده يجحدون ولا يقرّون بها.
روي عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أنه حين حضره الموت قال في وصيته لعمر بن الخطاب: إنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق في الدنيا وثقله عليهم وحق لميزان يوضع فيه الحق غدًا أن يكون ثقيلًا، وإنما خفَّت موازين من خفَّت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل في الدنيا وخفته عليهم وحق لميزان يوضع فيه الباطل غدًا أن يكون خفيفًا. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَمَنْ خَفَّتْ موازينه} أي موازينُ أعمالِه أو أعمالُه التي لا وزن لها ولا اعتدادَ بها وهي أعْمالُه السيئة {فَأُوْلَئِكَ} إشارةٌ إليهم باعتبار اتصافِهم بتلك الصفة القبيحةِ، والجمعيةُ ومعنى البُعدِ لما مر آنفًا في نظيره وهو مبتدأٌ خبرُه {الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم} أي ضيّعوا الفطرةَ السليمةَ التي فُطروا عليها وقد أُيّدت بالآيات البينة وقولُه تعالى: {بِمَا كَانُواْ بآياتنا يَظْلِمُونَ} متعلق بخسروا وما مصدريةٌ وبآياتنا متعلقٌ بيظلمون على تضمين معنى التكذيبِ قُدِّم عليه لمراعاة الفواصلِ، والجمعُ بين صيغتي الماضي والمستقبل للدَلالة على استمرار الظلمِ في الدنيا أي فأولئك الموصوفون بخفة الموازينِ خسروا أنفسَهم بسبب تكذيبِهم المستمر بآياتنا ظالمون. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَمَنْ خَفَّتْ موازينه فأولئك الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم} بتضييع فطرة الإسلام التي ما من مولود إلا يولد عليها أو فطرة الخير الذي هو أصل الجبلة.
وقوله تعالى: {بِمَا كَانُواْ بآياتنا يَظْلِمُونَ} متعلق بخسروا، وما مصدرية و{بآياتنا} متعلق بيظلمون؛ وقدم عليه للفاصلة، وعدى الظلم بالباء لتضمنه معنى التكذيب أو الجحود، والجمع بين صيغتي الماضي والمضارع للدلالة على استمرار الظلم في الدنيا.
وظاهر النظم الكريم أن الوزن ليس مختصًا بالمسلمين بل الكفار أيضًا توزن أعمالهم التي لا توقف لها على الإسلام وإلى ذلك ذهب البعض.
وادعى القرطبي أن الصحيح أنه يخفف بها عذابهم وإن لم تكن راجحة كما ورد في حق أبي طالب.
وذهب الكثير إلى أن الوزن مختص بالمسلمين.
وأما الكفار فتحبط أعمالهم كيفما كانت، وهو أحد الوجهين في قوله تعالى: {فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْنًا} [الكهف: 105] ولا يخفف بها عنهم من العذاب شيء، وما ورد من التخفيف عن أبي طالب فقد قال السخاوي: إن المعتمد أنه مخصوص به، وعلى هذا فلابد من ارتكاب خلاف الظاهر في الآية، وهي على كلا التقديرين ساكتة عن بيان حال من تساوت حسناته وسيئاته وهم أهل الأعراف على قول.
ومن هنا استدل بها بعضهم على عدم وجود هذا القسم، ورد بأنه قد يدرج في القسم الأول لقوله سبحانه: {خَلَطُواْ عَمَلًا صالحا وَءاخَرَ شَيْئًا عَسَى الله أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 102] وعسى من الله تعالى تحقيق كما صرحوا به وفيه نظر. اهـ.

.قال القاسمي:

{وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَظْلِمُونَ} [9].
{وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} أي: حسناته في الميزان {فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} بالعقوبة {بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَظْلِمُونَ} أي: يكفرون.
تنبيهات:
الأول: قال السيوطي في الإكليل: في هذه الآية ذكر الميزان، ويجب الإيمان به. انتهى.
وقال الإمام الغزالي في المضنون: تعلق النفس بالبدن كالحجاب لها عن حقائق الأمور، وبالموت ينكشف الغطاء كما قال تعالى: {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ}، ومما يكشف له تأثير أعماله مما يقربه إلى الله تعالى ويبعده، وهي مقادير تلك الآثار، وإن بعضها أشد تأثيرًا من البعض، ولا يمتنع في قدرة الله تعالى أن يجري سببًا يعرف الخلق في لحظة واحدة مقادير الأعمال، بالإضافة إلى تأثيراتها في التقريب والإبعاد. فحدّ الميزان ما يتميز به الزيادة من النقصان، ومثاله في العالم المحسوس مختلف، فمنه الميزان المعروف، ومنه القبان للأثقال، والإصطرلاب لحركات الفلك والأوقات، والمسطرة للمقادير والخطوط، والعروض لمقادير حركات الأصوات. فالميزان الحقيقي، إذا مثله الله عز وجل للحواس، مثله بما شاء من هذه الأمثلة أو غيرها.
فحقيقة الميزان وحده موجود في جميع ذلك، وهو ما يعرف به الزيادة من النقصان، وصورته تكون مقدرة للحس عند التشكيل، وللخيال عند التمثيل، والله تعالى أعلم بما يقدره من صنوف التشكيلات، والتصديق بجميع ذلك واجب. انتهى.
الثاني: الذي يوضع في الميزان يوم القيامة. قيل: الأعمال وإن كانت أعراضًا إلا أن الله تعالى يقلبها يوم القيامة أجسامًا.